من الغَرامِنت إلى التبو

ابراهيم الموساوي —-يكتب؟

استمرارية الصحراء لا انقطاع الشعوب

لفهم تاريخ الصحراء الكبرى، ولا سيما فضاء فزّان وتيبستي وإنيدي وبوركو، لا بد من التخلي عن الفكرة الساذجة التي تتصور أن الشعوب تزول فجأة وتُستبدل بغيرها. فالصحراء لا تعرف الفراغ البشري، بل تعرف تحول الأنماط وبقاء الإنسان.

في هذا الفضاء القاسي، ظهرت إحدى أقدم الكيانات الصحراوية المعروفة في المصادر الكلاسيكية: الغَرامِنت. لم يكونوا قبيلة بدوية، بل دولة واحات، اتخذت من فزّان مركزًا لها، وبنت مدنًا أهمها جرمة. عرف الغرامنت سرّ الماء في باطن الأرض، فحفروا الفقّارات، وأنشؤوا نظام ريّ معقدًا مكّنهم من الزراعة وسط الرمال. وبفضل موقعهم، سيطروا على طرق القوافل العابرة للصحراء، وربطوا المتوسط بعمق إفريقيا، حتى دخلوا في صراع مباشر مع روما نفسها.

لكن الغرامنت، على قوتهم، ظلّوا أبناء الواحات، ولم يُحكموا قبضتهم على الجبال البركانية الوعرة جنوبًا وشرقًا. هناك، في تيبستي وإنيدي والمرتفعات السوداء، عاش قوم وصفهم الإغريق باسم التروغلوديت، أي “سكان الكهوف”. وهذا الاسم ليس نسبًا ولا قبيلة، بل توصيف لنمط عيش: بشر يعيشون في الجبال، في المغاور والمخابئ الطبيعية، بعيدين عن المدن والدول، سريعي الحركة، شديدي المراس، عصيين على الإخضاع.

وهكذا تكشف النصوص القديمة عن ثنائية صحراوية واضحة:

دولة واحات في الشمال، ومجتمعات جبلية حرة في الجنوب. ومع أفول الغرامنت ككيان سياسي، لم تختفِ الشعوب، بل انهار شكل الدولة، وبقي الإنسان، يعيد تنظيم نفسه وفق شروط الأرض.

في هذا السياق التاريخي الطويل، يظهر التبو، لا كقوم نزلوا فجأة من فراغ، ولا كورثة مباشرين لدولة الغرامنت، بل كشعب تشكّل عبر قرون داخل هذا المجال الصحراوي الجبلي نفسه. التبو أبناء الفضاء الممتد من فزّان إلى بحيرة تشاد، من الواحات إلى القمم البركانية، وقد ورثوا معرفة المسالك، والماء، والنجوم، وحدود الأرض التي لا ترسمها الخرائط بل الذاكرة.

مجتمع التبو لا يقوم على الدولة ولا على السلطة المركزية، بل على العشيرة، وهي وحدة أخلاقية أكثر منها سياسية. العشيرة التبوية لا تجتمع دائمًا، ولا تخضع لرئيس مطاع، بل تتكوّن من رجال ونساء أحرار، متفرقين في المكان، موحدين بالدم والجد المؤسس. وما يحفظها ليس السيف ولا القانون المكتوب، بل الاسم، واللقب، والوسم، والمحرم، والقسم، والأسطورة.

في ذاكرة التبو، يحتل السلف المؤسس مكانة خاصة. هو الجد الأول، قائد الهجرة، أو فاتح المراعي، أو أول من عرف الماء في وادٍ قفر. تُعرف قبوره، وتُحفظ أسماؤه، وتُروى قصصه لا بوصفها تاريخًا دقيقًا، بل كحكمة مختزلة، تُعلّم الأبناء من هم، وأين يقفون. والأسطورة هنا ليست خرافة، بل لغة الذاكرة حين تعجز الأسماء عن حمل الزمن.

ولا عجب أن نرى تشابهًا عميقًا بين وصف التروغلوديت القدامى ونمط حياة التبو لاحقًا:

الاستقلال، الفردية، رفض الخضوع، الحياة في الجبال، والاكتفاء بالحد الأدنى الذي يضمن البقاء والكرامة. لكن هذا التشابه لا يعني تطابقًا في الهوية، بل يدل على استمرارية المجال، حيث تصنع الأرضُ الإنسانَ بقدر ما يصنعها.

إن تاريخ الصحراء ليس تاريخ دول متعاقبة، بل تاريخ بشر صامدين. تسقط المدن، وتندثر الواحات، وتُمحى الأسماء من سجلات الإمبراطوريات، لكن الجبال تبقى، ومن يعرفها يبقى معها. ومن هنا نفهم أن التبو ليسوا بقايا حضارة منقرضة، ولا شعبًا طارئًا، بل ثمرة تراكم طويل، تشكّل فيه الإنسان الصحراوي الحر بعد انهيار الكيانات السياسية الكبرى.

في الصحراء، لا تموت الشعوب…

بل تغيّر وجوهها،

وتترك أسماءها في الرمل،

وتحمل ذاكرتها في الصدر،

وتواصل السير.