حين تكون الحقيقة أقوى من العاطفة… والسيادة أقوى من الشعارات
في البداية، لا يسعني إلا أن أترحم على من فقدوا في الحادث الأخير، وأن نحتسبهم عند الله من الشهداء، وأن نتقدم بخالص العزاء والمواساة إلى أسرهم وذويهم ومحبيهم، سائلين الله أن يتغمدهم برحمته الواسعة ويلهم أهلهم الصبر والسلوان.
غير أن الوفاء الحقيقي للضحايا لا يقتصر على الحزن، بل يفرض علينا الوقوف بعقلٍ هادئ ومسؤول لاستخلاص الدروس المستفادة، حتى لا تتكرر المأساة، ولا تُهدر الحقوق مرة أخرى..
للأسف، انشغلت أغلب منصات التواصل الاجتماعي منذ اللحظة الأولى بما جرى، وسار كثير منها بوعي أو بدونه في اتجاه نظرية المؤامرة، مستندين إلى صور ومقاطع ومعلومات لم يُتحقق من مصادرها ولا من دقتها.
وما يؤسف له أكثر أن هذا الانجراف لم يقتصر على العامة، بل شمل بعض الذين قدموا تصوراتهم المسبقة لأسباب الحادث قبل أن يبدأ التحقيق أصلاً. .. والقاعدة الذهبية في عالم تحقيقات حوادث الطيران واضحة ولا تقبل التأويل: Accident Investigation Is Evidence-Based, Not Opinion-Driven
تنحَّ جانباً عن مجريات التحقيق، واترك الأدلة تتكلم، وستظهر الحقيقة في وقتها. فالتحقيق ليس رأياً، ولا انطباعاً، ولا قراءة صور… بل علمٌ ومنهجٌ صارم.
ولكن ماذا يقول القانون الدولي؟
استناداً إلى الملحق 13 لاتفاقية شيكاغو، فإن فريق التحقيق ملزم بنشر التقرير المبدئي خلال مدة لا تتجاوز 30 يوماً من تاريخ وقوع الحادث.
وهذا التقرير يفترض ان يتضمن قدراً كبيراً من الحقائق التي يتم التوصل إليها بعد جمع الأدلة وتحليل البيانات الفنية الموثوقة. وعليه، فإن كل ما يسعى البعض اليوم لتفسيره أو الجزم به، سيتضح لاحقاً بشكل رسمي، موثق، وغير قابل للتشكيك، خاصة وأن فريق التحقيق يضم ثلاث دول تركيا - مالطا - فرنسا
ولكن هل ستشارك ليبيا في مجريات تحقيق الحادث ؟
من خلال الاتصالات والنقاشات التي جرت منذ وقوع الحادث، كان الاستغراب كبيراً بل صادماً لدى البعض عندما علموا أن ليبيا ربما لن تكون ضمن فريق التحقيق. والحقيقة المؤلمة أن هذا الغياب لم يكن قسرياً، بل جاء نتيجة تفريط بقصد أو بغير قصد في حق كان يمكن لليبيا أن تتمسك به لو توفرت الأسس القانونية الصحيحة.
ولكن من يملك حق المشاركة فعلاً؟
ينص الملحق 13 بوضوح على أن الدول المخولة بالمشاركة في تحقيقات حوادث الطيران هي:
دولة وقوع الحادث: تركيا
دولة تسجيل وتشغيل الطائرة: مالطاا
دولة تصميم وتصنيع الطائرة: فرنسا
كما يجوز لمنظمة الطيران المدني الدولي (ICAO) تعيين ممثل لها إذا تجاوز الوزن الأقصى للطائرة 2250 كغم.
أما ليبيا، فهي دولة فقدت رعاياها في الحادث، وهو وضع إنساني مؤلم، لكنه لا يمنحها تلقائياً حق المشاركة الفنية المباشرة في التحقيق، ما لم تكن دولة تسجيل أو تشغيل للطائرة.
ويجوز فقط وبناءً على تقدير دولة التحقيق السماح لها بالمشاركة بصفة مراقب أو خبير لأسباب إنسانية أو دبلوماسية.
وهنا تكمن الحقيقة القانونية التي يجب أن تُقال بوضوح، بعيداً عن العاطفة.
الشعارات لا تصنع تحقيقاً .. فهل يدرك ساستنا هذه الحقيقة؟
للأسف، فإن التصريحات الصادرة عن بعض الساسة بشأن عزم ليبيا إجراء تحقيق مستقل لا تستند في رأيي الشخصي إلى أي أساس قانوني، لا محلي ولا دولي.
كما أن إرسال منتسبين من وزارتي الدفاع أو الداخلية لا ينسجم مع القواعد الدولية المنظمة لتحقيقات حوادث الطيران.
وكان يؤمل من وزارة المواصلات باعتبارها الجهة المختصة أن تتولى زمام المبادرة، وهي التي تدرك ما يخوله القانون الدولي لدولة ليبيا وحجم المشاركة في هذا التحقيق وأن تنسق مع بقية الوزارات و الجهات ذات العلاقة في الدولة، وأن توضّح منذ اللحظة الأولى أن هذا الملف يُدار بالقانون والعقل، لا بالعاطفة وردود الفعل المتسرعة. فبهذا فقط نظهر للعالم أننا دولة تفهم التزاماتها وحقوقها، وتحترم النظم الدولية.
ونأتي ختاما للدروس المستفادة: ما الذي يجب أن نفعله؟
انطلاقاً مما سبق، يمكن تلخيص الدروس المستفادة في النقاط التالية:
أولاً: ضمان الحق الليبي في المشاركة في التحقيق مستقبلاً .. حيث يتطلب الامر حماية المصالح الوطنية وإعادة النظر في الآليات التي تضمن لليبيا حق المشاركة في التحقيقات الدولية، وذلك عبر تعزيز وضعها كـ دولة تسجيل أو تشغيل، من خلال دعم شركة أو مركز وطني للرحلات الخاصة أو العارضة. وهذا ليس خياراً تجارياً فحسب، بل مسألة سيادة دولة.
ثانياً: دعم وتفعيل مكتب تحقيق حوادث الطيران بوزارة المواصلات حيث
تبرز الحاجة الملحّة إلى دعم المكتب المختص تشريعياً وفنياً وإدارياً، والاستثمار في تدريب الكوادر الوطنية، والمشاركة في برامج الإيكاو، وبناء قدرات احترافية قادرة على تمثيل ليبيا في المحافل الدولية.
ثالثاً: احترام مبدأ الاختصاص والتنسيق المؤسسي حيث للاسف أظهر الحادث ضعفاً واضحاً في التنسيق بين مؤسسات الدولة والابتعاد عن مبدأ الاختصاص، لصالح قرارات آنية غير مدروسة. إن تحديد الأدوار بوضوح والعمل بروح الفريق المؤسسي شرط أساسي لإدارة الأزمات بشكل احترافي وهذا يدق ناقوس الخطر حول مدى جهوزية الدولة لمواجهة اي كارثة جوية قد تحدث لاسمح الله..
ختاما .. إن تحقيق الحوادث لا يدار بالشعارات، ولا يحقق بالانفعالات، ولا تُصان السيادة فيها إلا بالفهم العميق للقانون الدولي.
نسأل الله أن يتغمد الضحايا بواسع رحمته، وأن تكون هذه المأساة آخر الأحزان، وبداية وعيٍ جديدٍ يضع مصلحة الدولة وحقوقها في المكان الصحيح.
والله الموفق.
