التبو… قبيلةٌ تُشبه نفسها ولا تُشبه أحداً ⸻

مقال —- منقول

في عمق الصحراء، حيث الرمال لا تهدأ، وحيث القوافل لا تعرف مستقرّاً، نشأت جماعات بشرية صاغت لنفسها قيماً وأعرافاً مغايرة لما عرفه الناس عن القبائل العربية أو الطوارقية. هناك، على تخوم الصحراء الكبرى وفي هضاب تيبستي الصلبة، يعيش التبو… قوم حرّ لا ينقاد، وعشائر تتوالد وتموت وتتفرّع مثل أغصان شجرة لا تُروى إلا بالدم والنسب.

ليس التبو قبيلة على النحو المألوف، ولا عشائرهم سلطة هرمية تُطاع أو تُورّث. بل هم رجال ونساء أحرار، تجمع بينهم روابط الدم والواجب والشرف، وتتفرّق بهم دروب الصحراء حيث يشاء القدر والسعي وراء الماء والمرعى.

إنها قبيلة تخدم الفرد لا العكس؛ وذاك سرّ عصيانها على الحكم، وسرّ بقائها كذلك عبر القرون.

قبيلة التبو

إن دراسة مجتمع التبو تستوجب التخلي عن الصورة النمطية للقبيلة البدوية المعروفة عند العرب والطوارق. فقبائل العرب تقوم على نسب أبوي متوارث وسلطة شخصية تنتقل مع الدم. أما الطوارق فعلى نسب أموي يورّث الانتماء ويشدّ القبيلة في بناء هرمي متماسك.

غير أنّ العشيرة التبوية بعيدة كل البعد عن هذين النموذجين. فهي ليست وحدة سياسية متماسكة، ولا جماعة تتحرّك بقيادة واحدة، ولا تخضع لرئيس أو شيخ يُطاع أمره. أفرادها متساوون، لا يقدّسون سوى أسلافهم القريبين وأسلاف الزوجة، ولا يخضعون لسلطة بشر.

العشيرة عندهم جماعة من الرجال والنساء الأحرار، تربطهم رابطة الدم، ويتوزعون في الأمكنة بلا تجمع دائم. ما يصنع العشيرة هو الجد الجامع، واسمه هو هويتها الأولى.

وللعشيرة علامات تُعرف بها:

الاسم واللقب، الوشم أو الوسم على الإبل، محرم خاص، طريقة أداء القسم، مكان للقرابين في جبال تيبستي، وأسطورة تختزل أصل الجماعة ومسيرتها.

الانتماء للعشيرة لا يكون إلا ولادة، ولا يلحق بالعشيرة وافد أو تابع أو زوج. فالمرأة تبقى على عشيرتها وحقوقها وواجباتها فيها. وينتمي الأبناء لعشيرة أبيهم، مع افتخار بمعرفة نسب الأم أيضًا ولو كان شبه خفي.

ويعتز التبو بكل الجذور التي تربطهم بأسلاف من الطرفين، بل إن للرجل أن يستعيد حيواناً فقده إن أثبت نسباً ولو بعيداً لمن استولى عليه، وهذا أمر عظيم لقوم يعيشون على الترحال والإبل.

روابط العشيرة أخلاقية لا سلطوية، ومن أخلّ بواجباته ألحق العار بنفسه. وقد يُجبر على تعويض أو يتحمل ثأراً. ومن أهم الواجبات: النجدة للمحتاجين، جمع الحيوانات الضالة وإعادتها، واجب الضيافة، والتعاون عند نحر القرابين.

وتبقى السرقة والقتل داخل العشيرة محرّمين وإن وقعا، وقد تنشب الثارات بين الأسر. أما التزامات الثأر والهدايا والاحترام وتحريم الزواج فتبقى ضمن حدود القرابة.

أولاً: قوى التفكك والتماسك

العشيرة التبوية تميل إلى التفكك بطبيعتها، فكل جيل يضعف الروابط. وأسباب التفكك عديدة:

الترحال والابتعاد، نفي القاتل إلى أماكن بعيدة حيث ينشئ أسرة، وتحريم الزواج من القريبة.

فالشاب لا يجد في بنات العم بناتٍ للزواج بل أخوات، فيرحل باكراً يبحث عن زوجة من عشيرة أخرى.

يبقى الزوج في خيمة أهل الزوجة حتى يولد الطفل الأول، ثم لا يأخذ زوجته إلا بهدية عظيمة، وإلا بقيت عند أهلها وربّي الأبناء في عشيرة الأم. وقد يتزوج الرجل أثناء سفره زوجة ثانية لا تقبل بها الأولى فلا يجلبها، وتبقى مع عشيرتها ويكون أبناؤها لهم.

ومع الزمن تتباعد الفروع وتضعف الروابط، وإن لم تُجدّد بالمصاهرة تنفصل وتصبح عشائر مستقلة. فتنشأ عشائر جديدة وتذوب أخرى، وتختفي ثالثة بالحرب أو الشتات، وقد ينقل اسمها عبر النساء.

ولا يُحفظ نسب العشيرة إلا لأجيال معدودة من ثمانية إلى أربعة عشر جيلاً، أي نحو ثلاثة أو أربعة قرون.

ولكن مع التفكك توجد قوى تماسك تحفظ شرف العشيرة وروابطها، أهمها:

العلامة، اللقب، المحرم، واجب المساعدة، واجب الضيافة، ردّ الحيوانات، والهدايا المتبادلة.

وتشكّل هذه الروابط شبكة معقدة من الحقوق والمحرمات، تصنع نسيج الحياة الجماعية عند التبو.

العشيرة تولد ثم تكبر وتتفرق حتى تموت، فتبقى منها ذكرى غامضة: وسمٌ على بعير، أو اسمٌ، أو أسطورة جدٍ مؤسس.

وخارطة العشائر دائمة التغير، لا تستقر.

وهذا النظام جعل التبو عاجزين عن تشكيل سلطة سياسية واسعة، لكنه منحهم صلابة مقاومة أمام الهيمنة. فشل غيرهم في إخضاعهم، ولم يخضع التبو لسلطان زمان طويل لأن العشيرة تخدم الفرد لا العكس، بخلاف من يعيش تحت سلطة الدولة.

ثانيًا: الرؤساء وقادة العشائر

ليس للعشيرة رأس بالمعنى السلطوي. ويقول التبو: قبل الفرنسيين لم يكن لنا رؤساء.

فرضت السلطة على بعضهم رؤساء تقليداً للأنظمة المجاورة أو بإرغام من السلاطين.

أما داخل العشيرة فلا رئيس يحكم أو يأمر، ومن العسير جمع أفرادها تحت راية واحدة إلا في بعض العشائر الحديثة الصغيرة المتماسكة. وإن وجد قائد فهو محرّض لا آمر.

الرئيس الحقيقي هو الجد المؤسس، أو زعيم الهجرة الأولى، أو فاتح المرعى، أو قائد حرب. ومكانته هيبة لا سلطة، تذكّر بالعادات، وتفصل بين الخصومات، وتعلن الغرامات، وقد يبرز دوره عند النوازل.

ثالثًا: السلف المؤسس

اسم الجد المؤسس محفوظ في الصدور، وقبور الأجداد معالم تنتشر في الوديان والهضاب.

ويُعرف أصله مما يتيح تصنيف العشيرة ضمن فروع التبو الكبرى: تيدا، دازا، كارا، دونزا، أرنا، أنا… أو نسبتها لشعوب مجاورة.

ختام تراثي

هكذا هو نظام العشيرة عند التبو:

جسدٌ بلا رأس، روابط بلا سلطة، نسبٌ يكبر ثم ينحل، وحرية لا تُطوق بقيود الدولة.

إنه نموذج اجتماعي فريد، ولد من الصحراء وسيبقى ما بقيت الرياح تنحت جبال تيبستي.