تمثل الصراعات الطبقية السلطوية في افريقيا واحدة من اعقد الاشكاليات البنيوية التي عرفتها القارة، اذ لا يمكن اختزالها في نزاعات سياسية عابرة او ازمات اقتصادية ظرفية، بل هي نتاج تاريخ طويل من اعادة انتاج السلطة والامتيازات داخل بنى غير عادلة. تشكلت هذه الصراعات عبر تداخل معقد بين الارث الاستعماري وبناء الدولة الوطنية واختلالات الاقتصاد العالمي، مما جعلها صراعات مزمنة تتجدد باشكال مختلفة. لم يكن الاستعمار الاوروبي مجرد احتلال عسكري للاراضي الافريقية، بل كان مشروعا لاعادة تشكيل المجتمع على اسس تخدم المركز الاستعماري. فقد انشأ طبقات سلطوية جديدة من النخب المحلية المرتبطة به، ومنحها امتيازات سياسية واقتصادية مقابل الولاء. هذا التقسيم الطبقي لم يقم على الكفاءة او العدالة الاجتماعية، بل على العرق والانتماء والقدرة على خدمة السلطة، مما زرع بذور الصراع منذ البداية.
ومع موجة التحرر الوطني، حصلت افريقيا على استقلالها السياسي، لكنها لم تحصل على تحرر اجتماعي واقتصادي حقيقي. ورثت النخب الوطنية ادوات القمع ذاتها، واستبدلت المستعمر الاجنبي بسلطة محلية لا تقل استبدادا. تحولت الدولة الى اداة لاحتكار الثروة والقرار، واستمرت الفجوة الطبقية بل واتسعت، مما جعل الاستقلال في كثير من الحالات شكليا لا اكثر.
تعاني افريقيا من مفارقة صارخة تتمثل في وفرة الموارد مقابل فقر الشعوب. تسيطر نخب محدودة، بالتعاون مع شركات متعددة الجنسيات، على قطاعات حيوية كالتعدين والنفط والزراعة، بينما تعيش الاغلبية في ظروف اقتصادية هشة. هذا الاحتكار يعمق الصراع الطبقي ويحول الدولة الى حارس لمصالح الاقلية بدل ان تكون اداة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
كما ساهمت برامج التكيف الهيكلي والخصخصة التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية في اضعاف دور الدولة الاجتماعي، وبيع الاصول العامة لصالح فئات محدودة. لم تؤد هذه السياسات الى التنمية كما روج لها، بل زادت من معدلات الفقر والبطالة، وعمقت التبعية الاقتصادية، وخلقت واقعا طبقيا اكثر هشاشة.
وتستخدم النخب السلطوية في كثير من الدول الافريقية الانقسامات القبلية والعرقية لاضعاف اي مشروع وطني جامع. يتم توجيه الصراع بعيدا عن جذوره الطبقية، ليصبح صراعا افقيا بين الفقراء انفسهم، وهو ما يخدم استمرار الهيمنة ويحول دون تشكل وعي جمعي قادر على التغيير. أفرزت التحولات الاقتصادية والثقافية طبقات وسطى حضرية تطالب بالاصلاح والديمقراطية، في حين بقيت المجتمعات الريفية غارقة في التهميش والاقصاء. هذا التناقض الاجتماعي والثقافي يولد توترات مستمرة، تستغلها السلطة لتبرير القمع او تاجيل اي مسار اصلاح حقيقي.
وتبرز في افريقيا نماذج متعددة لهذه الصراعات، حيث ما زالت جنوب افريقيا تعاني من ارث الفصل العنصري في بنيتها الاقتصادية، ويعكس السودان فشلا مزمنا في بناء دولة المواطنة، بينما تحول جنوب السودان الى دولة هشة تحكمها صراعات النخب المسلحة، في حين تشكل الكونغو الديمقراطية مثالا صارخا لتحول الموارد الطبيعية الى لعنة تغذي العنف وتطيل امد الفوضى. وقد اسهمت هذه الصراعات في تعميق الفقر، وتفشي الهجرة القسرية والنزوح، وهشاشة الدولة، وانتشار العنف، وفقدان الثقة بين المواطن والمؤسسات. كما ادت الى افراغ الدولة من مضمونها الاجتماعي وتحويلها الى اداة قمع بدل ان تكون اطارا جامعا للمجتمع.
ان مواجهة الصراعات الطبقية السلطوية في افريقيا تتطلب اعادة بناء الدولة على اسس العدالة الاجتماعية، وتفكيك تحالف المال والسلطة، وتبني سياسات عادلة في توزيع الموارد، والاستثمار في التعليم بوصفه اداة للتحرر، ودعم الحركات الاجتماعية المستقلة القادرة على مساءلة النخب وفرض التغيير.
فان الصراعات الطبقية السلطوية في افريقيا ليست قدرا محتوما، بل نتيجة خيارات سياسية واقتصادية واعية. استمرارها يعكس فشل النخب في بناء مشروع وطني جامع، ويكشف عن تواطؤ النظام العالمي مع هذه البنى المختلة. وحده الوعي الطبقي المرتبط بمشروع ديمقراطي تحرري قادر على كسر هذه الحلقة المفرغة وفتح افق جديد للقارة.
زكريا_نمر
