التبو في ليبيا، مكوّن أصيل دفعت قبيلته ثمن الجغرافيا والسياسة

منقول —-اسامة الشحومي

قبائل التبو هي من أقدم المكونات الأصيلة في الجنوب الليبي، ترجع جذورها إلى شعوب الصحراء الكبرى التي سكنت مناطق فزّان، الكفرة، مرزق، والقطرون منذ قرون طويلة، وامتدت بطونها إلى شمال تشاد والنيجر. يتحدث التبو لغتين رئيسيتين من العائلة النيلية الصحراوية هما التيدا والدازا، ويُعرفون ببسالتهم وقدرتهم الفريدة على الحياة في البيئات القاحلة الممتدة من جبال تيبستي حتى بحر الرمال العظيم. ورغم عمق انتمائهم التاريخي، عاش التبو لعقود طويلة على هامش الدولة الليبية. في العهد الملكي (1951–1969) ظلّ كثير منهم خارج سجلات الجنسية بسبب طبيعة حياتهم البدوية وعدم انتظام توثيق أنسابهم. ثم جاء نظام القذافي (1969–2011) ليُعمّق أزمتهم تحت شعار “الوحدة العربية”، حيث حُرِموا من حقّ الجنسية الكاملة، وحُظر عليهم استخدام لغتهم أو التمثيل في مؤسسات الدولة، بل سُحبت الجنسية من آلاف منهم في التسعينات بعد انتهاء حرب تشاد.#

أصبحت مناطقهم في الجنوب من أكثر المناطق تهميشًا في ليبيا، بلا بنية تحتية ولا خدمات ولا استثمار حقيقي. من عام 1973 حتى 1987 خاضت ليبيا سلسلة نزاعات مع تشاد حول إقليم أوزو — وهو شريط صحراوي حدودي تبلغ مساحته نحو 80,000 كم² شمال تشاد. كانت أوزو بالنسبة لليبيا جزءًا من “عمقها الاستراتيجي” الغني باليورانيوم والمعادن، بينما تراها تشاد أرضًا سيادية ضمن حدودها الاستعمارية الموروثة عن فرنسا. #

خلال هذه الحرب، وجد التبو أنفسهم في موقع بالغ التعقيد: فهم السكان الأصليون للمنطقة وأقرب من يفهم جغرافيتها، لكن حدود الاستعمار قسمت عائلاتهم بين البلدين. في أواخر السبعينات جنّد القذافي الآلاف من أبناء التبو المقيمين في شمال تشاد ومنحهم الجنسية الليبية، واستخدمهم ضمن وحدات الجيش الليبي لحماية أوزو. في المقابل، كان الرئيس التشادي حسين حبري — وهو نفسه من التبو (من قبيلة الدازا) — يقود قوات بلاده بدعم فرنسي ضد ليبيا. وهكذا وقعت المفارقة التاريخية: تبو ليبيون يقاتلون تبو تشاديين، في واحدة من أكثر فصول الحرب مأساوية إنسانيًا. عام 1987 جاءت “حرب التويوتا” لتغيّر المعادلة؛ إذ تمكّنت القوات التشادية الخفيفة الحركة من دحر الجيش الليبي في معارك “فادا” و“وادي دوم”، حتى دخلت داخل الحدود الليبية عند معطن السارة.

#في نهاية المطاف، حُسم النزاع قانونيًا بقرار محكمة العدل الدولية (3 فبراير 1994) التي أكدت تبعية أوزو لتشاد استنادًا إلى معاهدة 1955 بين فرنسا وليبيا. رضخت ليبيا للحكم وسحبت قواتها بالكامل. لكن التبو الذين قاتلوا على الجانبين خرجوا من الحرب منقسمين ومثقلين بالخيبات؛ فقد فقد كثيرون منهم أراضيهم، والبعض الآخر جنسياتهم، لتبدأ مرحلة جديدة من الحرمان والريبة الرسمية تجاههم داخل ليبيا. بعد حرب تشاد، شدّد النظام الليبي قبضته على التبو، سُحبت جنسيات، مُنعوا من الالتحاق بالجيش أو الوظائف، وتعرّضت مناطقهم في الكفرة ومرزق لحملات تهجير وهدم منازل في أواخر العقد الأول من الألفية. في عام 2008، قُمعت احتجاجات تباوية سلمية في الكفرة قُتل فيها أكثر من 30 شخصًا، ما عمّق الجرح بين الدولة وهذا المكوّن.

حين اندلعت ثورة 17 فبراير 2011، انخرط أبناء التبو بقوة في صفوف الثوار، وكانوا من أوائل من سيطروا على المعابر الجنوبية وعلى مساحات واسعة من الصحراء. لكن ما لبثت الآمال في العدالة أن تبددت بعد سقوط النظام، إذ انفجرت النزاعات القبلية القديمة من جديد: •عام 2012 اندلعت معارك دامية بين التبو والزوية في الكفرة، وبين التبو وأولاد سليمان في سبها. •وفي 2014–2015 شهدت أوباري حربًا قبلية بين التبو والطوارق أدّت إلى نزوح آلاف المدنيين. •ثم في 2019 تعرّضت مدينة مرزق (ذات الأغلبية التباوية) لقصف جوي مروّع أثناء العمليات العسكرية للقوات المسلحة الليبية، أودى بحياة أكثر من 40 مدنيًا وفق تقارير الأمم المتحدة وHuman Rights Watch، دون أي تحقيق أو محاسبة. رغم ذلك، واصل التبو الدفاع عن مناطقهم وحدودهم الجنوبية في غياب الدولة، وشاركوا في التصدي لجماعات إرهابية وعمليات تهريب، ما جعلهم عنصرًا لا يمكن تجاهله في معادلة الأمن الليبي. إلا أن التمثيل السياسي للتبو ظلّ محدودًا، وما زال الكثير من أبنائهم يطالبون بتسوية أوضاع الجنسية والمساواة في الوظائف والخدمات العامة. #

رسالة إلى صُنّاع القرار قضية التبو ليست ملفًا قبليًا فحسب، بل قضية هوية وعدالة تاريخية. فقد دفع هذا المكوّن ثمن الجغرافيا والسياسة، من حرب تشاد إلى نزاعات الجنوب، وما زال يطالب بحقوق المواطنة الكاملة ضمن دولة مدنية موحدة. وأي استقرار حقيقي في ليبيا لن يكتمل دون الاعتراف الصريح بالتبو كمكوّن وطني أصيل، وضمان مشاركتهم العادلة في الحكم، وتنمية مناطقهم الحدودية التي طالها النسيان.