منقول —محمد الرطيان
﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾ منذ أول سورة بعد فاتحة الكتاب، وعند أول موضع لذكر كتابه الكريم، في أول آيتين كريمتين يأتي الإعلان الإلهي والتحدي الكبير: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. تحدٍّ كبير لكل مشكك ومرتاب.. أي كتاب هذا الذي يأتي من أول سطر في ثاني صفحاته ليتحدى قارئه بأنه لا ريب فيه؟! ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾ اعتاد الدعاة والوعاظ ومفسرو الكتاب على القول: كانت معجزة موسى العصا ليهزم ما تفوّق به الفراعنة من سحر، ومعجزة عيسى الطب وعلاج المرضى لأن قومه برعوا في الطب، ومعجزة محمد القرآن الكريم لأن العرب تميزوا بالفصاحة والبيان.. والقرآن كذلك، ولكن ليست معجزة القرآن محصورة بالفصاحة والبيان، فإن حصرها بذلك تقليل من شأنه وشأن هذا النبي العظيم، بل القرآن معجزة خالدة. محمد لم يرسل لقومه فقط هو رسول للبشرية كلها.. بل هو آخر رسل السماء إلى الأرض بإنسها وجانها، وهذا القرآن كتاب صالح ـ ومصلح ـ لكل زمان ومكان.. «رسالة» موجهة لكل إنسان سواء كان يسكن كوخ متهالك في أدغال إفريقيا أوشقة فاخرة في ناطحة سحاب في مانهاتن! نظرة قاصرة تلك التي ترى أن القرآن بفصاحته وبيانه ولغته أتى – فقط – ليهزم به محمد فصحاء العرب ويعجزهم! البشرية في طفولتها الأولى كانت تحتاج إلى معجزات حسيّة.. أشياء عجيبة تراها بعينها: نوح يأتي معه طوفان مرعب. إبراهيم ينجو من النار. سليمان يخاطب الطير ويفهم لغة النمل. موسى تتحوّل عصاه إلى أفعى ضخمة ومخيفة. عيسى يصنع تمثالاً لطائر.. ويطير! تتقدّم الحضارة البشرية، ويتطوّر العقل البشري، ويصل التاريخ الإنساني إلى الربع الأخير في مشواره على هذا الكوكب!.. وتأتي معجزة محمد: «كتاب» يحترم العقل الذي تطوّر كثيراً ويخاطبه بمنطق، وحكمة، وموعظة حسنة. لن تجد أفعى تسعى بين السطور.. ستجد قانوناً إلهياً عظيماً: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ لن ترى في كتاب محمد عصا ساحرة.. بل ستقرأ العبارة الساحرة الباهرة. لن يخرج لك من بين الكلمات مارد من الجان، وهدهد يتحدّث.. بل ستجد المادة الأولى لحقوق الإنسان قبل أن يعرف الإنسان حقوقه: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ لن يطير التمثال بين صفحات الكتاب.. بل سيطير عقلك من الدهشة لكثرة الحقائق العلمية الموجودة بين صفحاته، والتي أتى بها رجل أمي من جزيرة العرب قبل 1400 سنة.. قبل أن ينتقل العقل البشري من عصور السحر والشعوذة إلى عصر الحقيقة العلمية بقرون طويلة! ذلك الكتاب لا ريب فيه.. وهو ليس كتاب علمي! ولكنك ستجد في صفحاته حقائق كونية، ومعلومات مذهلة ودقيقة تجعل عقلك السليم يقول: والله أن الرجل الذي أُتِي هذا الكتاب نبي، وأن الذي أرسله هو رب الكون. وحتى لو وجدوا فيه خطأً علمياً – ولن يجدوا – لكثرة ما فيه من صواب حتى الخطأ أنا على قناعة ويقين مطلق وثقة تامة أن الزمن سيكشف خطأ العلم وصواب القرآن. هو ليس كتاب تاريخي.. ولكنك ستجد فيه الدقة التاريخية التي تصف حاكم مصر في وقت النبي موسى بلقبه «الفرعون»، وفي قصة النبي يوسف ستقرأ هذه الألقاب السياسية: الملك، العزيز، وذلك لاختلاف الدولة وزمن الأحداث… في التوراة - على سبيل المثال - ستحدثك الرواية التوراتية غير الدقيقة عن يوسف وفرعون رغم أنهما في زمنين مختلفين! والتاريخ في القرآن ليس ماضٍ فقط.. التاريخ: مستقبل! هو ليس كتاب أدبي.. ولكنه سيدهشك بجماله وفصاحته ودقته، ولن تجد فيه كلمة واحدة تقول سأرفعها من مكانها و أضع بدلاً منها كلمة أخرى هي أفضل، وأدق، ومناسبة أكثر من الأولى.. لن تجد أبداً! ذلك الكتاب لا ريب فيه.. العلم سيحدثك عن الديناصورات، ومخلوقات مذهلة انقرضت ولم ترها.. الأساطير، والكتب القديمة، والحكايات لكثير من الشعوب ستحدثك عن التنانين وأنت لم ترها. القرآن الكريم مليئ بالأعاجيب، والقصص المدهشة: عن ذي القرنين، ويأجوج ومأجوج.. عن أناس ناموا ٣٠٠ سنة في كهف.. عن أقوام بادت بغضب إلهي.. عن طوفان ملأ الأرض في زمن نوح.. عن ملك جيشه من الجن والطيور. كل ما تظن أنه أسطورة.. حدث ذات يوم! القرآن يسجلها لك، ويحدثك عنها، ولكنه ليس كتاباً مسلياً يروي لك القصص الغرائبية! ذلك الكتاب لا ريب فيه.. ذلك الكتاب معجز ببلاغته وأسلوبه وبيانه وتعبيره. معجز بتشريعاته، وقوانينه، وأخلاقه. معجز بـ «التقاطاته» العلمية والجغرافية والطبية.. التي أكدتها العلوم والاكتشافات بعد مئات السنين من نزوله على محمد. معجز بروايته للماضي، ورؤيته للمستقبل.. وذكره لأحداث لم تحدث، وحدثت! معجز بدقته التاريخية… وعندما يقول لك ﴿ شروه بثمن بخس دراهم معدودة ﴾ فتأكد - دون أدنى شك - أنه في ذلك الوقت كان هنالك «عملة» يتم تداولها للبيع والشراء. معجز بطريقة تسلله إلى النفس البشرية، وحجم تأثيره الهائل بها.. أنظر لأي إنسان يعتنق الإسلام حديثاً، ستجد أن الغالبية العظمى منهم يرتجفون عند الشهادة، ويبكون بحرارة بعدها.. ما الذي يحدث لأرواحهم؟.. كانت ضائعة، ووصلت أخيراً! ذلك الكتاب لا ريب فيه.. هو كتاب الكتب هو الإعجاز والإيجاز والإنجاز. هو روح: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾ هو نور: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ هو هدى ورحمة: ﴿ وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين ﴾ هو شفاء: ﴿ هو للذين آمنوا هدى وشفاء ﴾ هو موعظة: ﴿ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ﴾ هو سعادة: ﴿ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ هو مدهش وعجيب: ﴿ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾ هو عربي: ﴿ إنا أنزلناه قرآنا عربيا ﴾ هو كما وصفه الرسول الذي أرسل به: «إن هذا القرآن: طرفه بيد الله.. وطرفه بأيديكم». فقط تخيّل هذا المشهد، وأنت تمسك به: طرفه بيدك.. وطرفه الآخر بيد خالقك. هو الحبل السري الوثيق بينكما الذي لم - ولن - ينقطع. ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه﴾ ولأن الخالق سبحانه كان يعلم بالنفس البشرية وغطرستها وغرورها، وأنه سيكون هنالك من خلقه ممن ستصيبهم الريبة والشك، بعد عشرون آية أتت هذه الآية: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ ولم، (ولن تفعلوا) لأن الذي أنزل هذا الكتاب الذي لا ريب فيه على محمد .. يقول له، ولكم: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾
