زكريا نمر يكتب—-
لم تكن القبيلة، في أصل تكوينها الاجتماعي، كيانا شريرا ولا عبئا على المجتمع، بل كانت استجابة تاريخية لحاجة الإنسان إلى الحماية والتنظيم والتكافل. نشأت القبيلة بوصفها إطارا يحفظ القيم المشتركة، وينظم العلاقات، ويقيم العرف، ويحد من الفوضى في مجتمعات ما قبل الدولة. غير أن المشكلة لم تكن يوما في القبيلة كفكرة، بل في الطريقة التي جرى توظيفها بها في الزمن الحديث، حيث تحولت من مكون اجتماعي إلى أداة مصلحية، ومن رابطة تضامن إلى شبكة نفوذ.
في واقعنا المعاصر، لم تعد القبيلة لدى كثيرين فضاء أخلاقيا يحتكم إلى القيم، بل أصبحت وسيلة جاهزة لتحقيق المصالح، وسلما سريعا لبلوغ المناصب والمكاسب. الفرد القبلي لا ينتمي للقبيلة بدافع الوفاء أو الشعور الجمعي، بل بدافع الحساب البارد ماذا ستمنحني؟ ومن يمكن أن أوظف؟ وأي منصب يمكن أن أصل إليه عبرها؟ القبيلة لم تعد بيتا، بل استثمارا.
هذا التحول الخطير جعل الانتماء القبلي أداة إقصاء لا أداة حماية. يتم توظيف الأخ، وابن العم، والقريب، لا لأنهم الأكفأ، بل لأنهم من الجماعة”. وهكذا تُفرغ الدولة من معناها، وتُقوض فكرة العدالة، ويُكافأ الانتماء بدل الكفاءة. في هذا السياق، لا تعود المؤسسات العامة ملكا للجميع، بل غنائم موزعة وفق خرائط الدم والنسب. الأكثر خطورة أن الدفاع المستميت عن القبيلة لا يكون غالبا دفاعا عن قيمها أو أعرافها، بل دفاعا مقنعا عن المصالح الشخصية. حين يهاجم شخص ما قبيلته، يشعر الفرد وكأن مصالحه قد تعرضت للخطر، فيهب للدفاع لا بدافع الكرامة الجماعية، بل خوفا من انهيار شبكة المنافع التي يتكئ عليها. القبيلة ليست هوية، بل درعا واقيا لمصالح فردية ضيقة.
في هذا النموذج، لا تعني الدولة شيئا. بناؤها، قوانينها، مؤسساتها، مشروعها الوطني، كلها مسائل ثانوية، بل مزعجة أحيانا. الدولة مطلوبة فقط بقدر ما تفتح أبوابها لتوزيع المناصب. فإن قامت على أسس مدنية عادلة تهدد الامتيازات القبلية، تصبح عدوا. وإن انهارت وبقيت القبيلة قوية، فلا بأس. منطق خطير يرى في الدولة عبئا، وفي القبيلة وطنا بديلا. تتحول القوانين إلى نصوص بلا روح، وتصبح المواطنة شعارا فارغا، ويغدو الفساد فعلا مبررا أخلاقيا ما دام يخدم “أهلنا”. يتم تبرير الظلم باسم العصبية، وتُغلف المحسوبية بخطاب حماية الجماعة، وتُسكت الأصوات الناقدة بتهمة الخيانة أو الخروج عن الصف.
المفارقة المؤلمة أن هذا الاستخدام النفعي للقبيلة لا يحميها، بل يدمرها. فالقبيلة التي تتحول إلى أداة صراع تفقد قيمها، وتتحلل أعرافها، وتصبح ساحة تنافس داخلي على الغنائم. ومع الوقت، لا يبقى من القبيلة سوى الاسم، بينما تنهار روحها التي قامت على التكافل والعدالة الداخلية.
النقد لا يستهدف القبيلة بوصفها مكونا اجتماعيا، بل يستهدف العقلية التي تضع القبيلة فوق الدولة، والمصلحة فوق القيم، والدم فوق الحق. فالمجتمع الذي يعجز عن الانتقال من منطق العصبية إلى منطق المواطنة، محكوم عليه بالدوران في حلقة مفرغة من الفشل والصراع. الدولة المدنية لا تعادي القبيلة، لكنها تضعها في حجمها الطبيعي: فضاء ثقافيا واجتماعيا، لا مصدرا للسلطة السياسية. حين تتحقق هذه المعادلة، تصبح القبيلة رافدا أخلاقيا للمجتمع، لا خنجرا في خاصرته. أما حين تستمر القبيلة كبديل عن الدولة، فذلك إعلان غير مكتوب عن فشل المشروع الوطني.
إن أخطر ما يواجه مجتمعاتنا اليوم ليس وجود القبيلة، بل غياب النقد الجريء لها. فالسكوت عن تحويلها إلى أداة فساد هو مشاركة غير مباشرة في هدم الدولة. ولا خلاص دون مواجهة هذا الواقع بصدق، والاعتراف بأن الولاء الأعمى للقبيلة، حين يُوظف ضد المصلحة العامة، يصبح شكلا من أشكال الخيانة المقنّعة.
