·
المجتمعات التي تستند إلى القبلية والجهل في إدارة شؤونها، يصبح المسار السياسي والاجتماعي محكوماً بسلسلة طويلة من الأخطاء المتراكمة. المجتمع الذي يرفض الوعي ويستبدله بالانتماء الضيق، ويفضل الولاء للقبيلة على الولاء للوطن، يخلق بيئة خصبة لنمو الهجينات الاجتماعية، والأحزاب العاجزة، والممارسات السياسية التي تفتقر إلى الحد الأدنى من العقلانية. هنا يفقد الفرد قدرته على التفكير المستقل، وتذوب إرادته داخل الكيان القبلي الذي يحدد له ما يعتقد وما يرفض، وما يختار وما يتجنب. وفي النهاية يصبح المجتمع مثل آلة تعمل بلا وعي، تكرر أخطاءها ذاتها بشكل ميكانيكي.
القبيلة في أصلها تكوين اجتماعي طبيعي، لكنها تتحول إلى كارثة عندما تصبح معياراً للحق والباطل، وللتقدم والتراجع، ولمن يستحق المناصب ومن لا يستحقها. حين تتفوق القبلية على الدولة، تتفتت السلطة إلى شظايا صغيرة، كل شظية تتحدث باسم جماعة، وتفرض حقها بقوة الصوت أو السلاح أو التاريخ المصنوع. ومع الوقت يتحول المجال السياسي إلى حلبة صراع بين كيانات صغيرة، كل منها يعتقد أنه مركز الكون، وأن الدولة مجرد امتداد لمصالحه الخاصة. هكذا تضيع الفكرة الكبرى: فكرة المواطنة التي يفترض أن تجمع الجميع ضمن عقد سياسي واحد يحميهم ويضمن حقوقهم.
وفي ظل هذا الانحدار، تظهر أحزاب لا تحمل أي مشروع، ولا تمتلك رؤية أو برنامجا. أحزاب تتجمع حول الأشخاص لا حول الأفكار، وتتحرك وفق مزاج اللحظة لا وفق خطة طويلة الأمد. ينتج المجتمع أحزاباً بلا عمق، وقيادات بلا ثقافة سياسية، ونخبا عاجزة عن قراءة الواقع فكيف بقراءه المستقبل. ومع الوقت يصبح العمل الحزبي نفسه هجينا، يخلط بين المصلحة الخاصة، والعاطفة القبلية، والبحث عن النفوذ، فيغيب جوهر السياسة الذي يقوم على خدمة الناس وصناعة الحلول. والديمقراطية هنا تتحول إلى مجرد شكل خاوي: صناديق انتخاب بلا وعي، شعارات بلا مضمون، حرية بلا بوصلة، وصراع بلا نهاية.
وبما أن غياب الدولة يخلق فراغاً، فإن هذا الفراغ لا يبقى خاليا سرعان ما تملؤه المليشيات التي تتشكل خارج إطار القانون. المليشيا ليست مجرد مجموعة مسلحة؛ إنها إعلان صريح عن موت الدولة، وانهيار العقد الاجتماعي، وغياب المرجعية الواحدة التي يفترض أن يحتكم إليها الجميع. حين تفرض المليشيا حضورها بقوة السلاح، يتحول المجتمع إلى غابة، وتصبح الحياة اليومية محكومة بالخوف والابتزاز، ويصبح المواطن رهينة للمجهول. أسوأ ما في هذه الظاهرة أنها لا تعرف الرحمة، لأنها لا تخضع لأي محاسبة، ولا تلتزم بأي قيمة، ولا تعترف بأي سلطة سوى السلاح.
ومع تزايد هذا التشويه، يظهر ما يمكن تسميته بالهجين السياسي والاجتماعي. ليس هو مجتمعاً قبلياً مستقرا، ولا دولة حديثة راشدة. إنه مساحة ضبابية، خليط غير متجانس من الأعراف القديمة، والممارسات الحديثة المشوهة، والتجارب السياسية الفاشلة، والنخب المترنحة بين الماضي والمستقبل. هذا الهجين لا يستطيع أن يبني دولة ولا أن يحافظ على تماسكه، لأنه يفتقر إلى الأسس التي تقوم عليها المجتمعات السليمة: التعليم الجيد، والوعي السياسي، والاستقرار الاقتصادي، واحترام القانون، والمؤسسات القادرة على إدارة الاختلاف.
المشكلة ليست في شخصيات بعينها، ولا في حدث واحد، بل في بنية كاملة تشجع على الفوضى وتعيد إنتاج نفسها باستمرار. بنية تجعل الجهل قاعدة، والقبلية معياراً، والفساد جزءاً من الحياة اليومية. وحتى حين تتغير الوجوه في السلطة، تبقى الآليات ذاتها تتحكم في المشهد، لأن البنية العميقة لم تتغير. لذلك تعيش هذه المجتمعات في دائرة مغلقة: الماضي يصنع الحاضر، والحاضر يعيد إنتاج الماضي، ولا شيء يتغير سوى مستوى الفشل الذي يتصاعد يوماً بعد يوم.
الطريق إلى التغيير يبدأ من الوعي؛ من الاعتراف بأن البناء لا يقوم على السلاح، ولا على العصبية، ولا على الشعارات، بل على الإنسان المتعلم، والمؤسسة القوية، والقانون الذي لا يستثني أحداً. ما لم تتغير هذه الجذور، سيظل المجتمع ينتج الأحزاب الهجينة، والحرية العمياء، والديمقراطية بلا رأس، والمليشيات التي لا ترحم أحدا.
