توريث السلطة باسم القبيلة.

حين تتحول القبيلة من كيان اجتماعي إلى مشروع سياسي، يتبدد المعنى الأصلي للانتماء ويستبدل بولاء مشوه يقاس بدرجة القرب من مراكز النفوذ. وفي مثل هذه الأنظمة تختزل الدولة في عائلة أو طائفة، ويتحول الوطن إلى خيمة كبيرة يتوزع ظلها على أبناء الولاء لا أبناء المواطنة. ويبدأ أخطر أنواع الفساد، حين تذوب الدولة في القبيلة ويغدو الحكم إرثا عائليا لا عقدا اجتماعيا.

توريث السلطة باسم القبيلة ليس مسألة سياسية فحسب، بل هو اختلال أخلاقي ومعرفي عميق يضرب أساس فكرة الدولة الحديثة. فالقبيلة التي كانت تمثل قديما وحدة للحماية والتكافل، تتحول اليوم إلى وسيلة لإدامة السيطرة وتوزيع الامتيازات. من خلالها تدار الوزارات والمؤسسات، وتحدد فرص التوظيف، ويقصى أصحاب الكفاءة بحجة أنهم من خارج البيت السياسي. وهكذا ينهض الاستبداد على عمودين: الولاء القبلي والخوف العام.في ظل هذا الواقع يتراجع دور القانون ويستبدل بمنطق من يعرف من، بينما تلغى الكفاءة لصالح القرابة. فيصبح الطريق إلى المنصب لا يمر عبر الجدارة بل عبر الولاء، وتتحول الوظيفة العامة إلى مكافأة لا إلى مسؤولية. ويغدو المواطن الذي لا ينتمي إلى القبيلة الحاكمة مواطنا من درجة ثانية، عليه أن يصمت أو يهاجر أو يتنازل عن كرامته في سبيل البقاء.

هذه المنظومة لا تنتج إلا الفساد لأنها تقوم على حماية المصالح لا على خدمة المجتمع. والفساد في جوهره ليس سرقة المال فقط، بل سرقة المستقبل أيضا. حين يمنع الكفء ويقدم الفاشل، تنهار المعايير الأخلاقية، وتصاب مؤسسات الدولة بالشلل. ويصبح التقدم مستحيلا لأن القرار يتخذ في دائرة مغلقة تحكمها روابط الدم والمصلحة.وفي الوقت ذاته تخنق الأصوات المعارضة، لأن أي نقد يفسر على أنه تهديد للقبيلة أو للزعيم. يختفي الحوار من الفضاء العام ويستبدل بالتطبيل، تلاحق الكلمة ويجرم الوعي، وتشوه صورة المثقف والمفكر، فيتهم بالعمالة أو بالتحريض. وهكذا تغلق كل النوافذ أمام التغيير السلمي لتبقى السلطة تعيد إنتاج ذاتها بوسائل جديدة لكن بالذهنية نفسها.إن أخطر ما تفعله الأنظمة القبلية السياسية هو قتل الوعي العام. فهي لا تكتفي بإسكات الأصوات، بل تعيد تشكيل العقول لتقبل بالظلم بوصفه قدرا. تزرع في المدارس والبيوت فكرة أن الحاكم نعمة وأن معارضته خيانة، فينشأ جيل يرى الخضوع فضيلة والمطالبة بالحق وقاحة. وبذلك يتحول القهر إلى ثقافة متوارثة تغذي الاستبداد جيلا بعد جيل.

أما النخبة المتعلمة فمصيرها الإقصاء أو الاستقطاب. فإذا رفضت الانصهار في آلة السلطة أقصيت ووصمت، وإذا قبلت تحولت إلى جزء من النظام الذي كان يفترض أن تقاومه. لذلك تضعف الأصوات الفكرية الحرة ويهاجر كثير من الكفاءات، وتترك الساحة لرجال الولاءات والصفقات. وهنا تتجذر الأزمة الدولة بلا فكر، والمجتمع بلا نقد، والسلطة بلا ضمير. لكن التاريخ علمنا أن الاستبداد لا يدوم، فحين تبنى السلطة على الولاء لا على العدالة تنهار من داخلها، لأن من ربي على الخضوع لا يستطيع أن يحكم بكرامة. وكل نظام يغلق باب المشاركة يفتح باب الانفجار. قد يتأخر التغيير، لكنه قادم، لأن الشعوب لا يمكن أن تظل عبيدا للقبيلة في زمن المواطنة والعقل.إن الخروج من هذا النفق يبدأ بإعادة تعريف مفهوم الدولة. فالدولة ليست امتدادا لقبيلة أو أسرة، بل هي كيان قانوني جامع يقوم على مبدأ المساواة والمحاسبة. لا يمكن لأي وطن أن يتقدم ما لم يتحرر من منطق الغنيمة إلى منطق الخدمة، ومن شرعية الوراثة إلى شرعية الأداء، ومن الولاء للأشخاص إلى الولاء للمبادئ.

إن بناء مستقبل عادل يتطلب تفكيك العلاقة المريضة بين السلطة والقبيلة، وإطلاق حرية النخبة الفكرية والتعليمية لتقود التغيير. فالمتعلم ليس خصما للسلطة، بل ضمانة لبقائها في طريقها الصحيح. والمثقف الحر ليس عدوا للوطن، بل مرآته التي تنبهه حين يضل الطريق.ليس أخطر ما يفعله الاستبداد أنه يصادر الحكم، بل أنه يصادر الحلم. فهو لا يكتفي بالسيطرة على الأرض، بل يزرع الخوف في العقول حتى يظن الناس أن الظل هو النور، وأن السكون هو السلام. إن توريث السلطة باسم القبيلة يشبه الشجرة التي تأكل جذورها، تبدو من بعيد شامخة لكنها في داخلها خاوية تتهامس بين أغصانها رياح السقوط.في المجتمعات التي تغلق فيها الأبواب أمام الكلمة الحرة، لا تموت الحقيقة، لكنها تختبئ في قلوب الذين لم يتعلموا الصمت بعد. أولئك الذين ما زالوا يؤمنون أن العدالة ليست ترفا، وأن الإنسان لا يقاس بانتمائه بل بقدرته على أن يقول لا حين يصمت الجميع.

سيأتي يوم، مهما تأخر، تتفكك فيه جدران القبيلة ويتحرر فيه الوعي من وهم الوراثة. يوم يعود فيه الحاكم خادما لا سيدا، والمواطن شريكا لا تابعا. يوم يكتب التاريخ لا بدماء الصمت، بل بأقلام الأحرار الذين رفضوا أن تكون الكرامة إرثا يمنح بل قيمة تنتزع.ذلك اليوم هو بداية ولادة الدولة الحقيقية، الدولة التي لا تقام على الخوف بل على الثقة. فكما قال أحد الحكماء: قد يورثون السلطة، لكنهم لا يستطيعون أن يورثوا الضمائر.

#زكريا_نمر