مقال منقول …
ليس أشد بؤسا من تصريحات فائز السراج -وهو يتشدق بمسمى الدولة المدنية، وينصّب نفسه مدافعا شرسا عنها، وهي التي كانت وما تزال مجرد توليفة م
العصابات والميليشيات وشق برلماني انفصالي أبَى العمل من داخل مؤسسة منتخبة وخيّر الإبقاء على الصفة النيابية لاختلاق جسم هجين واصطناع نظام موازٍ لما كان يفترض أنه مشروع حكم ديمقراطي انتخابي-،، ليس أشد بوساً منه إلا حديث عقيله صالح -كبير الملبّسين في برلمان طبرق والعرّاب الأول لمشروع القضاء على اتفاق الصخيرات من خلال عملية عسكرية يعلم القاصي والداني أنها ستكبدالبلاد المزيد من الفوضى والدمارا، ولن تزيد الليبيين إلا يأساً من مستقبلهم المنظور في ظل الحرب و"نظام الزحوفات المتبادلة"..
عقيله صالح لا يفرق عن السراج ولا عن عبد الرحمن السويحلي شيئا، ولا يختلف عن نوري بوسهمين قيد أنملة.. فالأخير دافع عن الميليشيات واعتبرها بقرة مقدسة وغذّاها حتى سمنت وَرَبَا شحمها ولحمها، ورئيس مجلس نواب طبرق المنشطر على ذاته والمتلون عجز عن ممارسة سلطاته التشريعية غير الشرعية وخيّر التبشير بالحرب معتبرا إياها الحل الأول و"الضروري" وفرضها على الليبيين مشرعنا ومدافعا، بينما كان موقعه يقتضي أن يكون وازنا متزنا فاتحا الباب أمام حقن الدماء واستباحة المدن والبلدات..
لا خير في هذا ولا في ذاك، ولا خير في تصوراتهما وحلولهما والتلوّن الذين يمارسانه يخالان أنه قد ينطلي على الناس بعد ما رأوه وعايشوه من شرورِ المجالس
ومؤتمراتها وحكوماتها وبرلماناتها..
العجيب أن كل واحد من هؤلاء له مفهومه للدولة الديمقراطية.. وله فتاويه وتنظيره الخاص في باب الدولة المدنية!! وكل منهما جلب لنفسه سخرية الخارج وسخط الداخل.. من الذي يفترض أنه يكون صوت المؤسسات والمدافع عنها وعن دورها وعن المسارات الدستورية والسياسية السلمية ما دام رئيس البرلمان منتهي الصلاحية متمترسا متعسكرا متطرفا؟ وإلى من سيذهب الليبيون باحثين عن الحل السلمي وحقن الدماء؟ هل سيذهبون لمفاوضة داعش أو استفتاء المقاتلة أو محاورة المتحاربين في مرزق أو التماس الحلّ عند جموع المهاجرين واللاجئين العائدين أدراجهم من الضفة المتوسطية المقابلة إلى داخل ترابنا المستباح وشواطئنا السائبة بعد أن أسقطهم غربال الأوروبيين؟
هل سيستطيع السراج وجماعته حكم ليبيا دون الشرق ودون أنصار الكرامة لو انتصروا؟ لن يستطيعوا فعل ذلك حتى لو أرادوه..
وهل سيستطيع حفتر ومؤيديه أن يفصّل دولة على مقاسهم ويلقوا بالآخرين كلهم في البحر لن يستطيعوا ذلك "حتى لو أرادو، وحتى لو بلغوا الأسباب" !!
العجيب في الأمر أن عقيله صالح وأمثاله من الفاشلين يحاولون الإيحاء بأنهم ما يزالون يصلحون كي يكونوا طرفا في عملية سياسية مقبلة -بعد نجاح مفترض لعملية طوفان الكرامة -!! وأن كل من في طرابلس فاشلون إلا همْ.. وأن كل من في طرابلس إرهابيون إلا صالح وجماعته.. وأن كل في من طرابلس فاسدون إلا صالح ونوابه المعرقلين الفاسدين المتملّقين الذين امتصوا دماء الشعب وولغُوا في الدماء والكسب السّحت منذ أعوام دون أي إنجاز أو إجراء حقيقي يمنحهم الأمل ويقرّبهم من الحلّ !!؟؟ وأن الدولة الديمقراطية كمفهوم وممارسة ينبغي تعليقها إلى مابعد دخول طرابلس والقضاء على الخصوم،، رغم أن العالم يعترف بهؤلاء أيضا!!
أما من في طرابلس، فهم يحاولون تسويق أنهم الطرف الوحيد الذي يجسد الدولة المدنية ويدافع عن مشروع عدم عسكرة الحكم في ليبيا،، وأن هذا المشروع المدني لا يمكن أن يقوم إلا بعد الخلاص من حفتر وجماعته!!! يؤكد هؤلاء وأولئك ذلك رغم يقين صالح ومعسكر حفتر بأن السيطرة على ليبيا أمر يكاد المستحيل ذاته بإجماع دوائر دولية ومحلية وإقليمية لا حصر لها.. ورغم يقين السراج وأمراء الحرب في العاصمة أنهم لن يتمكنوا من اجتياز تخوم العاصمة بعد ان احكمت قوات الكرامة الخناق عليها"!!؟؟
من علينا أن نصدق؟ ومن علينا أن نكذّب بعد مضي كل هذه المدة وهذا الزمن السياسي الضائع الذي أهدروا فيه فرصا حقيقية للخروج من الأزمة وتخفيف مآسي الليبيين؟؟.. إن المنطق والعقل والتكتيك،، كلها تكذّب هؤلاء جميعا.. أولا لتطاوسهم وغرورهم وجهلهم بما يفعلون وبعواقبه.. وثانيا لضعفهم وللشرور التي في نفوسهم إزاء الليبيين من كل التوجهات.. وثالثا لفساد مشاريعهم وتبعيّتها وارتهانها، مشاريع مليئة بالفساد والإفساد والطمع والارتزاق، وهل "يصلح الله عمل المفسدين"؟؟
ما هي الدولة المدنية التي يمكن أن تنشأ في ليبيا؟
الدولة المدنية التي سيفرزها المجتمع الليبي ليست دولة حفتر ومؤيديه ولا دولة السراج ومليشياته.. ولا دولة عقيله ولا دولة بوسهمين.. هي دولة يرعاها خيار الخير والوطنية الصادقة غير المتذيلة وغير التابعة أو الظالمة.. هذه الدولة هي مشروع يعتمل في أذهان ووجدان الليبيين، والشعب الليبي هو من سيتولى الإعلان عنه والدفاع عنه وإنضاجه في الوقت المناسب.. فالليبيون يدركون حقيقة حصيلة طرابلس وحصيلة طبرق والبيضاء والرجمة ومصراته، وحقيقة دوافعهم وأغراضهم.. ويفهمون جيدا ما يجري لكن موازين القوى هي ما يتركهم يتعاملون مع الموجة بالحكمة والواقعية..
قد يستغرق إنضاج مثل هذه المشاريع بعض الوقت، وربما كثيرا من الوقت، وهو وقت توعية الليبيين البسطاء وشحذ هممِهِمْ ورص صفوفهم وتنظيم عملهم الجماعي كي يصبحوا قوة قادرة على قلب المعطيات السياسية بالسياسة، وبقوة الشعب المندفعة نحو خيارات واضحة ومعلنة تؤمن بالتعددية وبحق الجميع في الوطن، وتُحرّر البلد من مخاوف تجدّد النزاعات واستدامة الحروب وأبدية الكراهية والتباغض بين أبناء هذه الأرض المظلومة..