تفاصيل صغيرة دات معنى

كلما تقدمتُ في العمر، أكتشف أن تفاصيل صغيرة كنت أتجاوزها دون اكتراث، أصبحت اليوم تزعجني وتستوقفني. أشياء كنت أراها “عادية”، صارت في عيني قلة ذوق وقلة أدب…

لا أدري، هل هو أثر الغربة، أم نضج السنين، أم حكمة التجربة؟

لقد عشت أكثر من نصف حياتي بعيدًا عن وطني.

وليست حياتي في المدينة الفاضلة بالطبع، فلكل مكان إيجابياته وسلبياته. ومع ذلك، لا يسعني إلا أن أعترف أن التعامل اليومي بين الناس، سواء في الشارع أو في العمل، يعكس كثيرًا من قيم ديننا الإسلامي، لا كما ندرسها نظريًا، بل كما تُمارس عمليًا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”

بمعنى أن الدين بلا أخلاق كسيارة بلا عجلات، أو كالمركب بلا شراع… مجرد هيئة بلا جدوى.

مواقف صغيرة تختصر الكثير:

تمشي خلف شخص، فيمسك لك الباب حتى لا يُغلق في وجهك، فتبتسم وتشكره: “Thank you”، فيرد بأدب: “You’re welcome”. فتجد نفسك، تلقائيًا، تكرر الفعل نفسه مع الآخرين.

أما عندنا…

قد يُرتد الباب في وجهك بلا أدنى اكتراث، وإن أمسكتَ الباب لغيرك، تمر لحظة ثقيلة من الصمت، لا ابتسامة، ولا كلمة شكر، ولا حتى نظرة امتنان.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“من لا يشكر الناس لا يشكر الله”

فشكر الناس ليس مجرد لفظة، بل عبادة يومية لمن يدرك معناها الحقيقي.

انظر إلى الطوابير هناك:

ترى الصفوف مستقيمة كما لو رسمها ضوء ليزر، كل فرد يحترم دوره كأنه عهد شرف.

أما عندنا…

فالطابور معركة صامتة، من يصرخ أكثر أو يُشغل علاقاته يفوز، والبقية يبتلعون القهر خلف ابتسامات باهتة.

وفي الطرقات، تتكرر المشاهد:

في الغربة، القيادة ليست فقط مهارة بل أخلاق ومسؤولية؛ احترام الإشارات، وتقدير المشاة، وإعطاء الأولوية لصاحب الحق، والوقوف الكامل عند خطوط العبور، قاعدة ذهبية تُدرس في مدارسهم: “لا تؤذِ أحدًا ولا تأخذ حقًا ليس لك.”

وهذا امتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم:

“المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.”

فكيف بمن يعتدي على حقوق الناس في الطريق أو يستهين بأرواحهم بتهوره؟

أما عندنا…

فالطريق ساحة صراع؛ تهور، قلة احترام، تجاهل لحق المشاة، بل كأن إشارة التوقف او خطوط عبور المشاة مجرد “اقتراح” لا أكثر!

هناك، كلمات مثل “آسف” و”شكراً” تحلّق في الأجواء طبيعية كالأوكسجين.

بينما عندنا، تحتاج كلمة شكر إلى مناسبة خاصة، و لا تنتظر كلمة "اسف" وكأن الاعتذار يتطلب فتوى نادرة.

ورغم كل ذلك، يبقى الخير نابضًا في أوطاننا، وإن غطته أحيانًا غشاوة العجلة والأنانية.

قال النبي صلى الله عليه وسلم:

“الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة.”

فمهما خفت صوت الخير، فهو موجود، ينتظر قلوبًا مبصرة لتلتقطه.

كتبتُ هذه الكلمات، لأنني في كل مرة أزور فيها بلدًا عربيًا أو مسلمًا، أهمس في داخلي:

“يا رب، اجعلنا من الذين يعاملون الناس كما يحبون أن يُعامَلوا، واغرس في قلوبنا حسن الخلق أينما حللنا.”

منقول