منقول—-
في مساء 21 ديسمبر 1988، وقع انفجار مروّع أسقط طائرة الركاب الأمريكية بان آم الرحلة رقم 103 فوق بلدة لوكربي في اسكتلندا، في واحدة من أعقد القضايا
في التاريخ الحديث. أسفر الحادث عن مقتـ ـل 270 شخصًا، ما بين ركاب الطائرة وسكان البلدة، وتحولت القضية بسرعة إلى نزاع دولي طويل الأمد. بدأت التحقيقات البريطانية والأمريكية التي امتدت لسنوات، قبل أن تتجه أصابع الاتهام إلى ليبيا، لتدخل البلاد في مواجهة سياسية وقانونية مع المجتمع الدولي، انتهت بفرض عقوبات دولية قاسية على ليبيا عزلتها اقتصاديًا ودبلوماسيًا.
في عام 1999، وافق الزعيم الليبي معمر القذافي على تسليم اثنين من المسؤولين الليبيين إلى محكمة دولية خاصة خُصصت للنظر في القضية بهولندا وفقًا للقانون الاسكتلندي. كان المتهمان هما عبد الباسط المقرحي، ضابط في جهاز الاستخبارات الليبية، والأمين خليفة فحيمة، موظف في الخطوط الجوية الليبية. بعد محاكمة استمرت عدة أشهر، أُدين المقرحي وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة، بينما أُفرج عن فحيمة بعد تبرئته من التهم المنسوبة إليه
استمرت المفاوضات الدبلوماسية بين ليبيا والغرب لسنوات، وفي عام 2003، أرسلت ليبيا رسالة رسمية إلى مجلس الأمن تعترف فيها بمسؤوليتها المدنية عن الحادث، وتعلن استعدادها لتعويض أسر الضحايا. دفعت ليبيا مبلغًا ضخمًا يُقدّر بحوالي 2.7 مليار دولار، بواقع 10 ملايين دولار لكل ضحية، دفعتها على مراحل مقابل رفع العقوبات الدولية عنها. لم تعترف ليبيا بتورطها الجنائي المباشر في الحادثة، بل قدمت اعترافًا يحمل صيغة دبلوماسية تؤكد "مسؤولية أفعال مسؤوليها" وهو اعتراف قانوني يفتح باب التسوية ويحفظ بعض ماء الوجه السياسي.
رغم طي صفحة التعويضات ورفع العقوبات وعودة ليبيا التدريجية إلى المجتمع الدولي، ظلت قضية لوكربي مفتوحة جزئيًا في الملفات الأمريكية، خصوصًا بعد سقوط نظام القذافي عام 2011 ودخول ليبيا في مرحلة من الفوضى والصراع الداخلي. في عام 2012، وبينما كان أبو عجيلة المريمي، وهو خبير متفجرات ليبي، رهن الاحتجاز في ليبيا بتهم منفصلة، سجّل اعترافًا أمام النيابة الليبية بأنه هو من صنع القـ ـنبلة التي أسقطت الطائرة، وذكر في اعترافه أن العملية نُفذت بتعليمات من المخابرات الليبية وبمباركة معمر القذافي شخصيًا. هذا الاعتراف ظل في الأرشيف الليبي حتى وصل إلى
السلطات الأمريكية عام 2017.
بناء على هذا الاعتراف، فتحت الولايات المتحدة من جديد ملف الملاحقة القضائية وأصدرت في عام 2020 لائحة اتهام رسمية ضد أبو عجيلة، رغم أن القضية كانت تعتبر منتهية من الناحية السياسية منذ سنوات. وبعد تفاهمات غير معلنة مع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، تم في ديسمبر 2022 تسليم أبو عقيلة إلى السلطات الأمريكية، في خطوة أثارت جدلًا واسعًا في الداخل الليبي واعتبرها كثيرون خرقًا للسيادة الوطنية وتصفية سياسية، خاصة أن عملية القبض عليه تمت بطريقة غير قانونية دون مسار قضائي ليبي واضح. تشير التقارير الأمريكية إلى أن تسليم أبو عقيلة جاء استجابة لضغوط أمريكية مباشرة، ويُعتقد أن الحكومة الليبية سعت من خلال هذا التسليم إلى الحصول على دعم سياسي أمريكي مقابل هذا التعاون، في سياق صراع السلطة المعقد في ليبيا .