القبيلة تعيد إنتاج الفقر.
القبيلة في أصلها كانت نظاما اجتماعيا طبيعيا نشأ لحماية الإنسان وتنظيم حياته قبل ظهور الدولة. كانت الرابط الذي يجمع الأفراد بالدم والمصلحة والمصير المشترك، وكانت في زمنها القديم أداة للبقاء في عالم قاس تسوده الطبيعة والحروب والنزاعات. لكنها حين تتحول من انتماء ثقافي إلى هوية سياسية واقتصادية مغلقة، تصبح عائقا أمام أي مشروع حضاري، وتتحول من إطار تضامن إلى دائرة فقر وركود وحرمان.
إن بقاء القبيلة في صورتها التقليدية يعني استمرار الفقر، لأن منطقها يقوم على الولاء لا الكفاءة، وعلى القرابة لا الجدارة، وعلى الماضي لا المستقبل. فحين يقدم ابن القبيلة على حساب صاحب الموهبة، وحين تصبح العصبية معيارا للتوظيف والقيادة والتأثير، تنهار قيم العدالة ويقبر الإبداع في مهده. القبيلة في هذه الحالة لا تبني مجتمعا، بل تحرس التخلف باسم الهوية.
الفقر ليس مجرد نقص في المال، بل هو أيضا فقر في الفكر والرؤية والإرادة. والمجتمعات التي لا تتحرر من سطوة القبيلة تظل أسيرة لهذا الفقر المركب. فالقبيلة تغلق الفرد داخل حدودها، تمنعه من الانفتاح على العالم، وتعلمه أن الانتماء أهم من الكفاءة، وأن الطاعة أهم من النقد. إنها تقتل روح الفردانية الخلاقة التي يحتاجها أي مجتمع يسعى للنهوض، لأن الولاء فيها يقوم على الطاعة العمياء لا على المشاركة الواعية.
حين تهيمن القبيلة على الدولة، تتحول مؤسساتها إلى امتداد لعلاقات القرابة. يصبح المنصب إرثا، والوظيفة مكافأة، والقرار رهينة لزعماء العشائر. يتحول الفساد من سلوك فردي إلى بنية اجتماعية، لأن كل مسؤول يحتمي بقبيلته، وكل فاسد يجد من يدافع عنه باسم الانتماء. وهكذا، تلغى فكرة المواطنة لصالح العصبية، وتدفن فكرة العدالة تحت ركام الولاءات الصغيرة. إن بقاء القبيلة بهذا الشكل يعني غياب المشروع الوطني. فالدولة الحديثة لا تبنى على العصبية بل على المؤسسات، لا على القرابة بل على القانون. أما المجتمع الذي يقسم نفسه إلى قبائل متناحرة، فلن يجد وقتا للنهضة لأنه منشغل بحماية انتماءاته الضيقة. فكل قبيلة تنظر إلى الأخرى كتهديد، وكل فرد يرى في الآخر خصما لا شريكا في الوطن.
من الناحية الاقتصادية، القبيلة تكرس الفقر لأنها ترفض التنافس الحر. الاقتصاد يحتاج إلى عقلية منفتحة تؤمن بالكفاءة، بينما المجتمع القبلي يفضل توزيع الثروة داخل دائرته المغلقة. ولذلك نجد أن المشاريع التنموية في البيئات القبلية تفشل غالبا، لأنها تصطدم بمنطق الزعامة والمحسوبية. التنمية تحتاج إلى مجتمع متماسك بالمواطنة لا بالعصبية، وإلى نظام يقدر العمل لا الاسم، والكفاءة لا الأصل. وللفقر في ظل القبيلة وجه آخر، هو الفقر الفكري. فحين تسيطر القبيلة على الوعي، يتحول التفكير إلى ترديد لما يقوله الزعيم أو الشيوخ. تتوقف الأسئلة، وتخنق روح النقد، ويعاد إنتاج نفس الأفكار القديمة باسم الوفاء للتراث. وهكذا تتحول الثقافة إلى ماض دائم، بدل أن تكون جسرا نحو المستقبل.
إن القبيلة تمثل هوية وثقافة لا يمكن تجاوزها. هذا صحيح جزئيا، فالقبيلة يمكن أن تكون رافدا ثقافيا وإنسانيا، لكنها لا يمكن أن تكون نظاما سياسيا أو اقتصاديا في عصر الدولة الحديثة. فالمشكلة ليست في وجود القبيلة كرمز اجتماعي أو ثقافي، بل في تحولها إلى سلطة تفرض الولاء وتمنع التغيير. التحرر من القبيلة لا يعني إنكار الجذور، بل يعني تجاوزها نحو وعي أوسع. أن نرى أنفسنا كمواطنين أولا، وكأبناء ثقافات متنوعة ثانيا. فالمجتمعات التي نجحت في بناء دول قوية لم تلغ انتماءاتها المحلية، لكنها جعلتها جزءا من هوية وطنية جامعة. أما المجتمعات التي ظلت أسيرة القبيلة، فهي لا تزال تكرر نفس الحروب والصراعات، وتعيش في دوامة الفقر والفشل.
إن بقاء القبيلة يعني بقاء الفقر، لأن كليهما يقوم على فكرة الانغلاق والخوف من التغيير. والنهضة تبدأ حين نكسر هذه الدائرة، حين نؤمن أن الدم لا يصنع أمة، وأن القرابة لا تبني حضارة، وأن المستقبل لا يورث، بل يصنع بالفكر والحرية والعمل.
منقول…
زكريا_نمر
