العائلات الفاسدة في العالم العربي وأفريقيا.


 ·


الفساد ليس مجرد اختلاس للمال او استغلال للسلطة، بل هو ظاهرة معقدة تتجاوز الافعال الفردية لتشكل منظومة اجتماعية وسياسية واقتصادية كاملة، ككيان له دورة حياة مماثلة للانسان طفولة تتعلم فيها الخديعة، مراهقة تنمو فيها الثقة بالنفس على حساب القيم، كهولة تسيطر فيها على المؤسسات، وشيخوخة قد تستمر حتى يطبق القانون او تتدخل قوة خارجية تكسر هيمنة العائلة الفاسدة.

في البلدان العربية، مثل العراق، سوريا، ليبيا، واليمن، وكذلك في بعض البلدان الافريقية كاموريتانيا و السودان، الكونغو، ونيجيريا و غانا و الغابون و واوغندا، يتجذر الفساد في المؤسسات بسبب ضعف الدولة او غيابها احيانا.فالقوانين تبقى حبرا على ورق، والسلطة المكلفة بالرقابة تكون شبه غائبة او غير فعالة، مما يخلق بيئة خصبة لعائلات فساد مترابطة، لها شبكة من العلاقات، تحمي بعضها البعض وتضمن استمرارها في السلطة والنفوذ والمال.

الفساد المالي ليس مجرد مشكلة اقتصادية، بل هو المحرك الرئيسي لكل اشكال الفساد الاخرى. فهو يفسد القيم الاخلاقية والاجتماعية، ويحول الفضيلة والشرف الى شعارات بلا مضمون. الفساد الاخلاقي والفوضى الاجتماعية ليسا نتيجة عرضية، بل هما نتاج طبيعي للفساد المالي المستشري في الدولة. فالمال الحرام يمتص الاخلاق والقيم، ويجعل استغفار الناس والدعاء والالتزام الديني اشبه بذكرى بعيدة بلا اثر. العائلات الفاسدة تتغذى على الفوضى السياسية والاجتماعية. كل فوضى تولد فسادا ماليا، وكل فساد مالي يولد فسادا اخلاقيا، وهكذا ينتشر الفساد كورم خبيث في جسد الدولة والمجتمع. الفساد يتحول الى سلطة موازية، يتجاوز القانون، ويخلق دولة داخل الدولة. القانون يصبح رمزي، محفوظ في الادراج، بينما الفاسدون الكبار يسيطرون على مفاصل السلطة، ويحددون من يعاقب ومن يحمي.

في هذه البيئة، تصبح الحرية زائفة، مبررا لكل تجاوز وفوضى. الحرية ليست اختيارا مسؤولا او التزاما بالقانون، بل وسيلة لتبرير الانتهاكات، وسلوكا لتطويع الدولة والمجتمع لصالح العائلات الفاسدة. وهكذا، يصف الفساد الدين بالقيد والتخلف، ويبعد الناس عن الفضيلة، ويقدس المال والنفوذ على حساب الاخلاق والقيم. احد الاسباب الرئيسية لاستمرار العائلات الفاسدة في البلدان العربية والافريقية هو امتزاج المال بالسلطة. فالمال الحرام يخلق شبكة مصالح متشابكة، تربط المسؤولين في الدولة بالفاسدين الصغار، وتجعل اي محاولة للاصلاح صعبة او مستحيلة. في ظل هذه الشبكة، يصبح الفاسد الاكبر هو الحاكم، والمحكومون هم الفاسدون الصغار، ويقام للفساد دستور غير مكتوب، يجرم النزاهة والشرف ويشرع السرقة والمجون والفسق، ويحول الفضيلة الى جريمة، والقيم الدينية الى شعارات فارغة.

الفساد ليس مجرد ازمة مالية او اخلاقية، بل هو مشروع سياسي كامل يستثمر في غياب القانون ويؤسس لنظام مواز يحكم بالقوة والمال ويضمن استمراريته عبر العائلات المتكاملة من الفاسدين. الاصلاح الحقيقي يحتاج الى مواجهة شاملة تطبيق صارم للقانون، فصل المال عن السياسة، محاسبة كل من يسيء استخدام السلطة، واعادة بناء ثقافة عامة تقدر النزاهة والقيم الاخلاقية. العائلات الفاسدة، في هذا الواقع، ليست مجرد مشكلة فردية، بل منظومة اجتماعية وسياسية واقتصادية مترابطة تتطلب وعيا جماعيا ومجهودا مؤسسيا للحد منها. اذا لم يقف المجتمع والدولة معا، فان الفساد لن يكون مجرد فعل، بل سيصبح دولة داخل الدولة، تحكم بالقوة والمال، وتنسف كل ما يمت الى العدالة، الحرية الحقيقية، والدين.

ما تراه في هذا دول ليس مجرد فساد مالي او اخلاقي، بل مشروع سياسي مستمر، يجعل الفاسد الاكبر هو الحاكم، والفاسدون الصغار هم المحكومون، ويثبت ان غياب القانون والانضباط المؤسساتي يولد عائلات فساد مترابطة، لا تموت، ولا تقبر، بل تستمر في الحكم والنهب، حتى تصبح الفوضى والفساد ثقافة عامة، والعدالة مجرد حلم بعيد.

#زكريا_نمر