الغُربة ليست فقط سفراً إلى مكان بعيد، بل هي حالة نفسية تعيش داخل الإنسان قبل أن تطأ قدمه أرضًا غير أرضه. إنها ذلك الشعور الثقيل الذي يتسلل إلى الروح في صمت، يُربك الذاكرة ويثقل القلب، حتى تصبح الحياة بلا طعم، بلا صوت، بلا حضن دافئ يعيد للروح اتزانها.
في الغربة، كل شيء يبدو باردًا حتى في وهج الصيف. حرارة الغربة لا تُقاس بدرجات الحرارة، بل بحرارة الشوق، وبُعد الأحبة، وثقل الأيام التي تمرّ دون وجه مألوف، أو لهجة طيّبة، أو رائحة خبز من فرن الجيران. الغربة لا تطرق الباب، بل تسكنك فجأة، وتبدأ في سرقة تفاصيلك الصغيرة: ضحكتك العفوية، لهفتك للأعياد، وحتى لهجتك التي تبدأ بالخفوت شيئًا فشيئًا.
أما الوحدة في الغربة، فهي قاتلة. لا تشبه الوحدة في الوطن، ففي الوطن إن ضاقت بك الأرض، وجدت من يربت على كتفك، من يسندك ولو بكلمة، أما في الغربة، فإنك قد تبكي بصمت في منتصف الليل، ولا يسمعك أحد. كل وجوه الغربة غريبة، وكل الأصوات بلا معنى، وكأنك تعيش في عرض مسرحي لا تفهم حواراته، لكنك مضطر للحضور حتى النهاية.
وما يزيد من مرارة الغربة هو جحود الأوطان. أن تغترب بحثًا عن كرامتك، أو لقمة عيشك، أو مستقبلك، ثم لا تجد من وطنك سوى النسيان، أو الإدانة، أو التجاهل. أن تصبح مجرد رقم في قوائم المغتربين، دون أن يسأل أحد عن حكايتك، عن غربتك، عن ألمك، عن مساهمتك في بناء وطن لم يعترف بك.
الأوطان التي تُجبر أبناءها على الرحيل، ثم تنساهم، تُشبه الأمهات التي تنكر أبناءها عند الحاجة. لا شيء أقسى من الشعور بأنك منفيٌّ من وطنك، لا بالقوة، بل بالإهمال. فالغربة ليست قدرًا دائمًا، بل في بعض الأحيان، هي جريمة ترتكبها الأوطان في حق أبنائها الطيبين.
ومع ذلك، تبقى الأوطان، رغم كل شيء، في القلب. نحملها معنا في غربتنا كما يحمل البحر ملوحته في كل موجة. نشتاق لها، نغضب منها، نحلم بعودتنا إليها، ونخاف منها في الوقت ذاته. نحبها رغم جحودها، لأنها الوطن، ولأن القلب لا يعرف كيف يكره ترابه الأول.